فصل: قال أبو السعود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو السعود:

قوله تعالى: {إِذْ يُوحِى رَبُّكَ إِلَى الملائكةِ}
منصوبٌ بمضمر مستأنفٍ خوطب به النبيُّ عليه الصلاة والسلام بطريق التجريدِ حسبما تنطِق به الكافُ لِما أن المأمورَ به مما لا يستطيعه غيرُه عليه الصلاة والسلام فإن الوحيَ المذكورَ قبل ظهورِه بالوحي المتلوِّ على لسانه عليه الصلاة والسلام ليس من النعم التي يقف عليها عامةُ الأمةِ كسائر النعمِ السابقة التي أُمروا بذكر وقتِها بطريق الشكرِ، وقيل: منصوب بقوله تعالى: {وَيُثَبّتَ بِهِ الاقدام} فلابد حينئذٍ من عود الضميرِ المجرورِ في به إلى الربط على القلوب ليكون المعنى: ويثبتَ أقدامَكم بتقوية قلوبِكم وقتَ إيحائِه إلى الملائكة وأمرِه بتثبيتهم إياكم وهو وقتُ القتال، ولا يخفى أن تقييدَ التثيبتِ المذكورِ بوقت مبْهمٍ عندهم ليس فيه مزيدُ فائدةٍ، وأما انتصابُه على أنه بدلٌ ثالثٌ من إذ يعدكم كما قيل فيأباه تخصيصُ الخِطاب به عليه الصلاة والسلام مع ما عرفتَ من أن المأمورَ به ليس من الوظائف العامةِ للكل كسائر أخواتِه. وفي التعرض لعنوان الربوبيةِ مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام من التنويه والتشريفِ ما لا يخفى، والمعنى اذكُر وقتَ إيحائِه تعالى إلى الملائكة {إِنّى مَعَكُمْ} أي بالإمداد والتوفيقِ في أمر التثبيتِ فهو مفعولُ يوحي، وقرئ بالكسر على إرادة القول أو إجراءِ الوحي مُجراه.
وما يُشعِر به دخولُ كلمةِ مع من متبوعية الملائكةِ إنما هي من حيث إنهم المباشرون للتثبيت صورةً فلهم الأصالةُ من تلك الحيثيةِ كما في أمثال قوله تعالى: {إِنَّ الله مَعَ الصابرين} والفاءُ في قوله تعالى: {فَثَبّتُواْ الذين ءامَنُواْ} لترتيب ما بعدها على ما قبلها فإن إمدادَه تعالى إياهم من أقوى موجباتِ التثبيتِ، واختلفوا في كيفية التثبيتِ فقالت جماعةٌ: إنما أُمروا بتثبيتهم بالبِشارة وتكثيرِ السوادِ ونحوِهما مما تقوى به قلوبُهم وتصِحّ عزائمهُم ونياتُهم ويتأكد جِدُّهم في القتال وهو الأنسبُ بمعنى التثبيتِ وحقيقتِه التي هي عبارةٌ عن الحمل على الثبات في موطن الحربِ والجِدّ في مقاساة شدائد القتال. وقد روي أنه كان الملَكُ يتشبّه بالرجل الذي يعرفونه بوجهه فيأتي ويقول: إنى سمعتُ المشركين يقولون: والله لئن حَملوا علينا لننكَشِفنّ ويمشي بين الصفين فيقول: أبشِروا فإن الله تعالى ناصرُكم وقال آخرون: أُمروا بمحاربة أعدائِهم وجعلوا قوله تعالى: {سَأُلْقِى فِي قُلُوبِ الذين كَفَرُواْ الرعب} تفسيرًا لقوله تعالى: {إِنّى مَعَكُمْ} وقوله تعالى: {فاضربوا} الخ، تفسيرًا لقوله تعالى: {فَثَبّتُوا} مبينًا لكيفية التثبيت. وقد روي عن أبي داود المازنى رضي الله عنه وكان ممن شهد بدرًا أنه قال: اتبعتُ رجلًا من المشركين يوم بدر لأضرِبَه فوقعتْ رأسُه بين يديَّ قبل أن يصِلَ إليه سيفي. وعن سهل بن حُنيفٍ رضي الله عنه أنه قال: لقد رأيُتنا يوم بدر وإن أحدَنا يُشيرُ بسيفه إلى المشرك فتقعُ رأسُه عن جسده قبل أن يصِلَ إليه السيفُ.
وأنت خبيرٌ بأن قتلَهم للكفرة مع عدم ملاءمته لمعنى تثبيتِ المؤمنين مما لا يتوقف على الإمدادِ بإلقاء الرعبِ فلا يتجه ترتيبُ الأمر به عليه بالفاء وقد اعتذر الأولون بأن قوله تعالى: {فَثَبّتُواْ الذين ءامَنُواْ} تلقينًا للملائكة ما يثبّتونهم به، كأنه قيل: قولوا لهم قوْلي: سألقي في قلوب الذين كفروا الرعبَ فاضرِبوا إلخ فالضاربون هم المؤمنون، وأما ما قيل من أن ذلك خطابٌ منه تعالى للمؤمنين بالذات على طريق التلوينِ فمبناه توهُّمُ ورودِه قبل القتالِ وأنّى ذلك والسورةُ الكريمة إنما نزلت بعد تمامِ الوقعة، وقوله تعالى: {فَوْقَ الاعناق} أي أعاليَها التي هي المذابح أو الهامات {واضربوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} قيل: البنانُ أطرافُ الأصابع من اليدين والرجلين، وقيل: هي الأصابعُ من اليدين والرجلين وقال أبو الهيثم البنان: المفاصلُ، وكلُّ مَفصِلٍ بنانه وقال ابن جريج والضحاك: يعني الأطرافَ أي اضرِبوهم في جميع الأعضاء من أعاليها إلى أسافلها. وقيل: المرادُ بالبنان الأداني وبفوق الأعناق الأعالي والمعنى فاضرِبوا الصناديدَ والسَّفَلةَ وتكريرُ الأمر بالضرب لمزيد الاعتناءِ بأمره و{منهم} متعلقٌ به أو بمحذوف وقع حالًا مما بعده. اهـ.

.قال الألوسي:

{إِذْ يُوحِى رَبُّكَ إِلَى الملائكة}
متعلق بمضمر مستأنف أي اذكر خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم بطريق التجريد حسبما ينطق به الكاف، وقيل: منصوب ب {يثبت} [الأنفال: 11] ويتعين حينئذٍ عود الضمير المجرور في به إلى الربط ليكون المعنى ونثبت الأقدام بتقوية قلوبكم وقت الإيحاء إلى الملائكة والأمر بتثبيتهم إياكم وهو وقت القتال، ولا يصح أن يعود إلى الماء لتقدم زمانه على زمان ذلك، وقال بعضهم: يجوز ذلك لأن التثبيت بالمطر باق إلى زمانه أو يعتبر الزمان متسعًا قد وقع جميع المذكور فيه وفائدة التقييد التذكير بنعمة أخرى والإيماء إلى اقتران تثبيت الأقدام بتثبيت القلوب المأمور به الملائكة الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، أو الرمز إلى أن التقوية وقعت على أتم وجه، وقيل: هو بدل ثالث من {إِذْ يَعِدُكُمُ} [الأنفال: 7] ويبعده تخصيص الخطاب بسيد المخاطبين عليه الصلاة والسلام.
واختار بعض المحققين الأول مدعيًا أن في الثاني تقييد التثبيت بوقت مبهم وليس فيه مزيد فائدة.
وفي الثالث إباء التخصيص عنه مع أن المأمور به ليس من الوظائف العامة للكل كسائر أخواته ولا يستطيعه غيره عليه الصلاة والسلام لأن الوحي المذكور قبل ظهوره بالوحي المذكور، ولا يخفى على المتأمل أن ما ذكر لا يقتضي تعين الأول نعم يقتضي أولويته.
والمراد بالملائكة الملائكة الذين وقع بهم الإمداد، وصيغة المضارع لاستحضار الصورة، والمعنى إذ أوحى {إِنّى مَعَكُمْ} أي معينكم على تثبيت المؤمنين، ولا يمكن حمله على إزالة الخوف كما في قوله سبحانه وتعالى: {لاَ تَحْزَنْ إِنَّ الله مَعَنَا} [التوبة: 40] لأن الملائكة لا يخافون من الكفرة أصلًا، وما تشعر به كلمة مع من متبوعية الملائكة لا يضر في مثل هذه المقامات، وهو نظير {إِنَّ الله مَعَ الصابرين} [البقرة: 153] ونحوه، والمنسبك مفعول يوحي، وقرئ إني بالكسر على تقدير القول أي قائلًا إني معكم، أو إجراء الوحي مجراه لكونه متضمنًا معناه، والفاء في قوله سبحانه: {فَثَبّتُواْ الذين ءامَنُواْ} لترتيب ما بعدها على ما قبلها، والمراد بالتثبيت الحمل على الثبات في موطن الحرب والحد في مقاساة شدائد القتال قالا أو حالا، وكان ذلك هنا في قول بظهورهم لهم في صورة بشرية يعرفونها ووعدهم إياهم النصر على أعدائهم، فقد أخرج البيهقي في الدلائل أن الملك كان يأتي الرجل في صورة الرجل يعرفه فيقول: أبشروا فإنهم ليسوا بشيء والله معكم كروا عليهم، وجاء في رواية كان الملك يتشبه بالرجل فيأتي ويقول: إني سمعت المشركين يقولون: والله لئن حملوا علينا لنكشفن ويمشي بين الصفين ويقول: أبشروا فإن الله تعالى ناصركم.
وقال الزجاج: كان بأشياء يلقونها في قلوبهم تصح بها عزائمهم ويتأكد جدهم، وللملك قوة إلقاء الخير في القلب ويقال له الهام كما أن للشيطان قوة إلقاء الشر ويقال له وسوسة؛ وقيل: كان ذلك بمجرد تكثير السواد.
وعن الحسن أنه كان بمحاربه أعدائهم وذهب إلى ذلك جماعة وجعلوا قوله تعالى: {سَأُلْقِى فِي قُلُوبِ الذين كَفَرُواْ الرعب} تفسيرًا لقوله تعالى: {إِنّى مَعَكُمْ} كأنه قيل: أني معكم في إعانتهم بإلقاء الرعب في قلوب أعدائهم، والرعب بضم فسكون وقد يقال بضمتين وبه قرأ ابن عامر والكسائي الخوف وانزعاج النفس بتوقع المكروه، وأصله التقطيع من قولهم: رعبت السنام ترعيبًا إذا قطعته مستطيلًا كأن الخوف يقطع الفؤاد أو يقطع السرور بضده، وجاء رعب السيل الوادي إذا ملأه كأن السيل قطع السلوك فيه أو لأنه انقطع إليه من كل الجهات، وجعلوا قوله سبحانه وتعالى: {فاضربوا} إلخ تفسيرًا لقوله تبارك وتعالى: {فَثَبّتُواْ} مبين لكيفية التثبيت.
وقد أخرج عبد بن حميد وابن مردويه عن أبي داود المازني قال: بينا أنا أتبع رجلًا من المشركين يوم بدر فأهويت بسيفي إليه فوقع رأسه قبل أن يصل سيفي إليه فعرفت أنه قد قتله غيري.
وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بينما رجل من المسلمين يشتد في أثر رجل من المشركين أمامه إذ سمع ضربة بالسوط فوقه وقائلًا يقول: أقدم حيزوم فخر المشرك مستلقيًا فنظر إليه فإذا هو قد حطم وشق وجهه فجاء فحدث بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: صدقت ذلك من مدد السماء الثالثة.
وجوز بعضهم أن يكون التثبيت بما يلقون إليهم من وعد النصر وما يتقوى به قلوبهم في الجملة، وقوله سبحانه وتعالى: {سَأُلْقِى} إلخ جملة استئنافية جارية مجرى التعليل لإفادة التثبيت لأنه مصدقه ومبينه لإعانته إياهم على التثبيت، وقوله سبحانه وتعالى: {فاضربوا} إلخ جملة مستعقبة للتثبيت بمعنى لا تقتصروا على تثبيتهم وأمدوهم بالقتال عقيبه من غير تراخ، وكأن المعنى أني معكم فيما آمركم به فثبتوا واضربوا.
وجيء بالفاء للنكتة المذكورة، ووسط {سألقء} تصديقًا للتثبيت وتمهيدًا للأمر بعده، وعلى الاحتمالين تكون الآية دليلًا لمن قال: إن الملائكة قاتلت يوم بدر، وقال آخرون: التثبت بغير المقاتلة، وقوله عز وجل: {ءامَنُواْ سَأُلْقِى} تلقين منه تعالى للملائكة على إضمار القول على أنه تفسير للتثبيت أو استئناف بياني، والخطاب في {فاضربوا} للمؤمنين صادرًا من الملائكة حكاه الله تعالى لنا، وجوز أن يكون ذلك الكلام من جملة الملقن داخلًا تحت القول، كأنه قيل: قولوا لهم قولي {سَأُلْقِى} الخ، أو كأنه قيل: كيف نثبتهم؟ فقيل: قولوا لهم قولي {سَأُلْقِى} الخ، ولا يخفى أن هذا القول أضعف الأقوال معنى ولفظًا.
وأما القول بأن {فاضربوا} إلخ خطاب منه تعالى للمؤمنين بالذات على طريق التلوين فمبناه توهم وروده قبل القتال، وأنى ذلك؟ والسورة الكريمة إنما نزلت بعد تمام الواقعة، وبالجملة الآية ظاهرة فيما يدعيه الجماعة من وقوع القتال من الملائكة {فَوْقَ الاعناق} أي الرءوس كما روي عن عطاء وعكرمة، وكونها فوق الأعناق ظاهر.
وأما المذابح كما قال البعض فإنها في أعالي الأعناق و{فَوْقَ} باقية على ظرفيتها لأنها لا تتصرف؛ وقيل: إنها مفعول به وهي بمعنى الأعلى إذا كانت بمعنى الرأس، وقيل: هي هنا بمعنى على والمفعول محذوف أي فاضربوهم على الأعناق، وقيل: زائدة أي فاضربوا الأعناق {واضربوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ}.
قال ابن الأنباري: البنان أطراف الأصابع من اليدين والرجلين والواحدة بنانة وخصها بعضهم باليد.
وقال الراغب: هي الأصابع وسميت بذلك لأن بها إصلاح الأحوال التي بها يمكن للإنسان أن يبن أي يقيم من أبن بالمكان وبن إذا أقام، ولذلك خص في قوله سبحانه وتعالى: {بلى قادرين على أَن نُّسَوّىَ بَنَانَهُ} [القيامة: 4] وما نحن فيه لأجل أنهم بها يقاتلون ويدافعون، والظاهر أنها حقيقة في ذلك، وبعضهم يقول: إنها مجاز فيه من تسمية الكل باسم الجزء.
وقيل: المراد بها هنا مطلق الأطراف لوقوعها في مقابلة الأعناق والمقاتل.
والمراد اضربوهم كيفما اتفق من المقاتل وغيرها وآثره في الكشاف.
وفي رواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها لجسد كله في لغة هذيل، ويقال فيها بنام بالميم وتكرير الأمر بالضرب لمزيد التشديد والاعتناء بأمره و{مِنْهُمْ} متعلق به أو بمحذوف وقع حالًا من {كُلَّ بَنَانٍ} وضعف كونه حالًا من بنان بأن فيه تقديم حال المضاف إليه على المضاف. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ}
{إذ} ظرف متعلق بقوله: {فاستجاب لكم أني ممدكم بألفٍ من الملائكة مردفين} [الأنفال: 9].
وجعل الخطاب هنا للنبيء صلى الله عليه وسلم تلطفًا به، إذ كانت هذه الآية في تفصيل عمل الملائكة يوم بدر، وما خاطبهم الله به فكان توجيه الخطاب بذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم أولى لأنه أحق من يعلم مثل هذا العلم ويحصل العلم للمسلمين تبعًا له، وأن الذي يهم المسلمين من ذلك هو نصر الملائكة إياهم وقد حصل الإعلام بذلك من آية: {إذ تستغيثون ربكم} [الأنفال: 9] ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كان أول من استغاث الله، ولذلك عرف الله هنا باسم الرب وإضافته إلى ضمير النبي صلى الله عليه وسلم ليوافق أسلوب {إذ تستغيثون ربكم} [الأنفال: 9] ولما فيه من التنويه بقدر نبيه صلى الله عليه وسلم إشارة إلى أنه فعل ذلك لطفًا به ورفعًا لشأنه.
والوحي إلى الملائكة المرسلين: إما بطريق إلقاء هذا الأمر في نفوسهم بتكوين خاص، وإما بإبلاغهم ذلك بواسطة.
و{أنّي معكم} قيل هو في تأويل مصدر وذلك المصدر مفعول يوحي، أي يوحي إليهم ثبوتَ معيّتِه لهم، فيكون المصدر، منصوبًا على المفعول به ليوحي، بهذا التأويل وقيل على تقدير باء الجر.
وأنت على ذُكْر مما قدمناه قريبًا في قوله تعالى: {أني ممدكم بألفٍ من الملائكة} [الأنفال: 9] من تحقيق أن تكون أن المفتوحة الهمزةِ المشددة النوننِ مفيدة معنى أنْ التفسيرية، إذا وقعت معمولة لما فيه معنى القول دون حروفه.